سورة الشورى - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)}
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول: أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله: {حم} فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد {عسق}؟ الثاني: أنهم أجمعوا على أنه لا يفصل بين {كهيعص} [مريم: 1] وهاهنا يفصل بين {حم} وبين {عسق} فما السبب فيه؟
واعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله، وقرأ ابن عباس وابن مسعود {حم * عسق}.
أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} فالكاف معناه الثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره، فيكون المعنى: مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان:
الأول: نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق وهذا عندي بعيد.
الثاني: أن يكون المعنى: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] أو أولها في تقرير التوحيد، وأوسطها في تقرير النبوة، وآخرها في تقرير المعاد، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال: {إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إبراهيم وموسى} [الأعلى: 18، 19] يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة، فكذلك هاهنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية، قال صاحب الكشاف ولم يقل أوحي إليك، ولكن قال: {يُوحِي إِلَيْكَ} على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير {كَذَلِكَ يُوحِى} بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم {نُوحِي} بالنون، وقرأ الباقون {يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بكسر الحاء، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى؟ قلنا ما دل عليه بوحي، كأن قائلاً قال من الموحي؟ فقيل الله ونظيره قراءة السلمي {وكذلك زُيّنَ لكَثِيرٍ منَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: 137] على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم، فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ {نُوحِي} بالنون؟ قلنا يرفع بالابتداء، والعزيز وما بعده أخبار، أو {العزيز الحكيم} صفتان والظرف خبره، ولما ذكر أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزاً يدل على كونه قادراً على ما لا نهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزاً حكيماً كونه قادراً على جميع المقدورات عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصواباً، وكانت مبرأة عن العيب والعبث، قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة:
الحمد لله ذي الآلاء والنعم *** والفضل والجود والإحسان والكرم
منزّه الفعل عن عيب وعن عبث *** مقدس الملك عن عزل وعن عدم
والصفة الثالثة قوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما: كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني: أنه لما بيّن بقوله: {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} أن كل ما في السموات وما في الأرض فهو ملكه وملكله، وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السموات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من السموات امتنع كونه أيضاً في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السموات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له، فوجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال: {لَّهُ مَا فِي السموات} وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين:
الأول: أن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى: {والسماء وَمَا بناها * والأرض وَمَا طحاها} [الشمس: 5، 6] وقال: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2، 3] والثاني: أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السموات والأرض إِلاَّ آتِى الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في السموات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السموات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السموات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السموات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.
والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى: {وَهُوَ العلي العظيم} ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله: {الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلهية.
ثم قال: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والنون، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والتاء، وقرأ نافع والكسائي: {يَكَادُ} بالياء {يَتَفَطَّرْنَ} أيضاً بالتاء، قال صاحب الكشاف: وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة {تتفطرن} بالتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روي في نوادر ابن الإعرابي: الإبل تتشمسن.
المسألة الثانية: في فائدة قوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} وجوه:
الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها.
واعلم أن هذا القول سخيف، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه، ويدل على فساده وجوه:
الأول: أن قوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} لا يفهم منه ممن فوقهن.
وثانيها: هب أنه يحمل على ذلك، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد».
وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السموات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة؟، فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني: في تأويل الآية ما ذكره صاحب الكشاف: وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السموات، وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، ودع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله تعالى؛ {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} [الحج: 19، 20] فجعل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يقال: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من فوق الأرضين، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض} ثم قال: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي من فوق الأرضين والوجه الرابع: في التأويل أن يقال معنى {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت؟ وفيه قولان الأول: أنه تعالى لما بيّن أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم، بيّن وصف جلاله وكبريائه، فقال: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي من هيبته وجلالته والقول الثاني: أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90]، وهاهنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله، لقوله بعد هذه الآية {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والصحيح هو الأول، ثم قال: {والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض}.
واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان: عالم الجسمانيات وأعظمها السموات، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} [النبأ: 1] لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات، فقال: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} [النبأ: 37] ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات، فقال: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، فقال: {تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات، فقال: {والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} فهذا ترتيب شريف وبيان باهر.
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يقبل الأثر، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام، ومتأثر لا يؤثر، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة، وهو المرتبة المتوسطة، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان: تعلق بعالم الجلال والكبرياء، وهو تعلق القبول، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات، وإذا كان كذلك فلها وجهان: وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني.
إذا عرفت هذا فنقول:
قوله تعالى: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء، وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق، إذا عرفت هذا فنقول: أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة، فقد اشتملت على أمرين: أحدهما: التسبيح، وثانيهما: التحميد، لأن قوله: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} يفيد هذين الأمرين، والتسبيح مقدم على التحميد، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضاً لكل الخيرات وكونه منزّهاً في ذاته عما لا ينبغي، مقدم بالرتبة على كونه فياضاً للخيرات والسعادات، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره، فلهذا السبب كان التسبيح مقدماً على التحميد، ولهذا قال: {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ}.
وأما الجهة الثانية: وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات، فالإشارة إليها بقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار، وقد قال تعالى: {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة} فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم؟، قلنا الجواب: عنه من وجوه:
الأول: أن قوله: {لِمَن فِي الأرض} لا يفيد العموم، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض، ولو كان قوله: {لِمَن فِي الأرض} صريحاً في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني: هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حام المؤمن فقال: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيء رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] الثالث: يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ} إلى أن قال: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41] الرابع: يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللّهم اهد الكافرين وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا في الحقيقة استغفار.
واعلم أن قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض} يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم.
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه:
الأول: أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني: أن الملائكة قالوا في أول الأمر: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} [البقرة: 30] ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجوداً في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال: {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة.
ثم قال تعالى: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.


{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
واعلم أن كلمة (ذلك) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً} يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء هاهنا قد سبق ذكره، وليس هاهنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6] يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتكون نذيراً لهم وقوله تعالى: {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى} أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] وأم القرى أصل القرى وهي مكة وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر، والإنذار التخويف، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحى إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولاً إليهم فقط وأن لا يكون رسولاً إلى كل العالمين الجواب: أن التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه، فهذه الآية تدل على كونه رسولاً إلى هؤلاء خاصة وقوله: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} [سبأ: 28] يدل على كونه رسولاً إلى كل العالمين، أيضاً لما ثبت كونه رسولاً إلى أهل مكة وجب كونه صادقاً، ثم إنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه، فثبت أنه رسول إلى كل العالمين.
ثم قال تعالى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} الأصل أن يقال أنذرت فلاناً بكذا فكان الواجب أن يقال لتنذر أم القرى بيوم الجمع وأيضاً فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه:
الأول: أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع} [التغابن: 9] فيجتمع فيه أهل السموات من أهل الأرض الثاني: أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث: يجمع بين كل عامل وعمله الرابع: يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه، وقوله: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فإن قيل قوله: {يَوْمَ الجمع} يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} يقتضي كونهم متفرقين، والجمع بين الصفتين محال، قلنا إنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين.
ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} والمراد تقرير قوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6] أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان، فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً، فقوله: {يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ} يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة، وقوله: {والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته، وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته، لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة، وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته.
ثم قال تعالى: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء، ثم قال بعده لمحمد صلى الله عليه وسلم لست عليهم رقيباً ولا حافظاً، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا، فإن هذا المعنى لو كان واجباً لفعله الله، لأنه أقدر منك، ثم إنه تعالى أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار، فإن قوله: {أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} استفهام على سبيل الإنكار.
ثم قال تعالى: {فالله هُوَ الولي} والفاء في قوله: {فالله هُوَ الولي} جواب شرط مقدر، كأنه قال: إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه، لأنه يحيي الموتى وهو على كل شيءً قدير، فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء.
ثم قال: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً، فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات فقال: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين، وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته، وقيل وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح، فقولوا الله أعلم به، قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّي} [الإسراء: 85].
المسألة الثانية: تقدير الآية كأنه قال: قل يا محمد {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} والدليل عليه قوله تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
المسألة الثالثة: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا قوله تعالى: {وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْء فَحُكْمُهُ إِلَى الله} إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه، والثاني باطل لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل فيعتبر الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص وذلك ينفي العمل بالقياس، ولقائل أن يقول لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه يعرف من بيان الله تعالى، سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس؟ أجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف، والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه، فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبّي} أي ذلكم الحاكم بينكم هو ربي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإليه أرجع في كل المهمات، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} يفيد الحصر، أي لا أتوكل إلا عليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً.
ثم قال: {فَاطِرُ السموات والأرض} قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه خبر ذلاكم، أو خبر مبتدأ محذوف، والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السموات والأرض وقوله: {ذَلِكُمُ الله رَبّي} اعتراض وقع بين الصفة والموصوف، {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم من الناس {أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا} أي خلق من الأنعام أزواجاً، ومعناه وخلق أيضاً للأنعام من أنفسها أزواجاً {يَذْرَؤُكُمْ} أي يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق، أي كثرهم، وقوله: {فِيهِ} أي في هذا التدبير، وهو التزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين، إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين:
الأول: أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني: أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين، فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير، ولم لم يقل يذرؤكم به؟ قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير، ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} [البقرة: 179].
ثم قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير} وهذه الآية فيها مسائل:
المسألة الأولى: احتج علماء التوحيد قديماً وحديثاً بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسماً مركباً من الأعضاء والأجزاء وحاصلاً في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسماً لكان مثلاً لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئاً من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسماً، لكان كونه جسماً ذاتاً لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتاً، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسماً.
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلاً مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: نحن نثبت لله وجهاً ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوهاً كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوهاً وللخنازير والقردة والكلاب وجوهاً، لكان قد شبّه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب. ثم قال: ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له: وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه.
وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبهاً فكذا هاهنا ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول: أنه تعالى قال في هذه الآية {وَهُوَ السميع البصير} وقال في حق الإنسان {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2].
الثاني: قال: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105] وقال في حق المخلوقين {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير مسخرات فِي جَوّ السمآء} [النحل: 79] الثالث: قال: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] {واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقال في حق المخلوقين {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [المائدة: 83] الرابع: قال لإبليس {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وقال: في حق المخلوقين {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] الخامس: قال تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] وقال في الذين يركبون الدواب {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] وقال في سفينة نوح {واستوت عَلَى الجودى} [هود: 44].
السادس: سمى نفسه عزيزاً فقال: {العزيز الجبار} [الحشر: 23]، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله: {يأَيُّهَا العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} [يوسف: 78]، {يا أيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} [يوسف: 88].
السابع: سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضاً بالملك فقال: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} [يوسف: 50] وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: {رَبُّ العرش العظيم} [التوبة: 129] وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس، وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها، فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب.
وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية، فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وأما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة، وأيضاً نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض، فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات.
إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكناً ثم يصير متحركاً، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات، إذا عرفت هذا فنقول: الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف بسبب الأعراض القائمة وهي الألوان والأشكال والخشونة والملاسة وحصول الشعور فيه وعدم حصولها، فالاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها، بقي هاهنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة؟ فنقول لنا هاهنا مقامان:
المقام الأول: أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود، وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفاً لماهية سائر الأجسام فكان هو قديماً أزلياً واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟ فإن قالوا هذا باطل لأن القرآن دلّ على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوّة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به.
والمقام الثاني: أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسماً لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثاً مخلوقاً قابلاً للعدم والفناء قابلاً للتفرق والتمزق.
وأما النقل فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كانت ذاته جسماً لكن ذلك الجسم مساوياً لسائر الأجسام في تمام الماهية، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلاً له، لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي، لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه كان بعيداً عن معرفة الحقائق، فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
المسألة الثانية: في ظاهر هذه الآية إشكال، فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن الله تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل لله، فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه، وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى، وأجاب العلماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه، ويقول الرجل: هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر:
ومثلي كمثل جذوع النخيل ***
والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفياً عمن كان مشابهاً بسبب كونه مشابهاً له، فلأن يكون منتفياً عنه كان ذلك أولى، ونظيره قولهم: سلام على المجلس العالي، والمقصود أن سلام الله إذا كان واقعاً على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعاً عليه كان ذلك أولى، فكذا هاهنا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء} والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا اللفظ ساقطاً عديم الأثر، بل كان مفيداً للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلاً لمثل نفسه فقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى باسم الشيء، وعندي فيه طريقة أخرى، وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزّهاً عن المثل، وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه، وهذا محال فإثبات المثل له محال، أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر، وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساوياً لمثله في تلك الماهية ومبايناً له في نفسه، وما به المشاركة غير ما به المباينة. فتكون ذات كل واحد منهما مركباً وكل مركب ممكن، فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود، إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئاً بناءً على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود، فهذا ما يحتمله اللفظ.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى: {وَلَهُ المثل الأعلى} [الروم: 27] يقتضي إثبات المثل فلابد من الفرق بينهما، فنقول المثل هو الذي يكون مساوياً للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساوياً له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفاً في تمام الماهية.
المسألة الرابعة: قوله: {وَهُوَ السميع البصير} يدل على كونه تعالى سامعاً للمسموعات مبصراً للمرئيات، فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على ظاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلاباً يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو السماع، وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي، فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة، وذلك على الله محال، فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب: الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه، وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تموج ذلك الهواء.
وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة، فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه، فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة، وهذا يدل على أن الرؤية حالة مغايرة لنفس ذلك الانطباع، وإذا ثبت هذا فنقول لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه، فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر، فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعاً كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعاً، فنقول ظاهر قوله: {وَهُوَ السميع البصير} يدل على كونه سميعاً بصيراً فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر، والتأثر في حق الله تعالى ممتنع، فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعاً، وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله، وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه، فإن قال قائل قوله: {وَهُوَ السميع البصير} يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر، مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين؟ فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
أما قوله تعالى: {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى: فاطر السموات والأرض والأصنام ليست كذلك، وأيضاً فهو خالق أنفسنا وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا، والأصنام ليست كذلك، وأيضاً فله مقاليد السموات والأرض والأصنام ليست كذلك، والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم، فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية؟ فقوله: {لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض} يريد مفاتيح الرزق من السموات والأرض، فمقاليد السموات الأمطار، ومقاليد الأرض النبات، وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ} [الزمر: 52] لأن مفاتيح الأرزاق بيده {إِنَّهُ بِكُلّ شيْء} من البسط والتقدير {عَلِيمٌ}.


{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} [الشورى: 3] ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وإبراهيم وموسى وعيسى، هذا هو المقصود من لفظ الآية، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها: أنه قال في أول الآية {مَا وصى بِهِ نُوحاً} وفي آخرها {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ} وفي الوسط {والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} فما الفائدة في هذا التفاوت؟.
وثانيها: أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال: {مَا وصى بِهِ نُوحاً} والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال: {والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ}.
وثالثها: أنه يصير تقدير الآية: شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله: {شَرَعَ لَكُم} خطاب الغيبة وقوله: {والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} خطاب الحضور، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله: {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ} أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة، كما قال يوسف عليه السلام: {أأربابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} [يوسف: 39] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} [الأنبياء: 25] واحتج بعضهم بقوله: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} على أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل، ومحل {أَنْ أَقيمُوا الدين} إما نصب بدل من مفعول {شَرَعَ} والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع؟ فقيل هو إقامة الدين {كَبُرَ عَلَى المشركين} عظم عليهم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع، بدليل أن الكفار قالوا: {أَجَعَلَ الآلهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَيْء عُجَابٌ} [ص: 5] وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع، والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل، وبيان منفعته من وجوه:
الأول: أن للنفوس تأثيرات، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني: أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث: أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: 46].
ثم قال تعالى: {الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وفيه وجهان الأول: أنه تعالى لما أرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني: أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم، ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله: {الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ} أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة، وقوله: {مَن يَشَآء} كقوله تعالى: {يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} [العنكبوت: 21].
ثم قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} وهو كما روي في الخبر من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره.
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله: {وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب، لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى، أي وقتاً معلوماً، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة، وهو معنى قوله: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ} والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم؟ فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى، والدليل قوله تعالى في آل عمران {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19] وقال في سورة لم يكن {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4] ولأن قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} لائق بأهل الكتاب، وقال آخرون: إنهم هم العرب، وهذا باطل للوجوه المذكورة، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} لا يليق بالعرب، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} من كتابهم {مُرِيبٍ} لا يؤمنون به حق الإيمان.
ثم قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَا أُمِرْتَ} يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة {وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب} أي بأي كتاب صح أن الله أنزله، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ونظيره قوله: {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله: {أولئك هُمُ الكافرون} [النساء: 151] ثم قال: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله.
ثم قال: {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ المصير} والمعنى أن إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء، ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام، والإقرار بنبوة الأنبياء، وبصحة البعث والقيامة، فلما لم يقبلوا هذا الدين، فحينئذٍ فات الشرط، فلا جرم فات المشروط.
وأعلم أنه ليس المراد من قوله: {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} تحريم ما يجري مجرى محاجتهم، ويدل عليه وجوه:
الأول: أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني: أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث: أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً، فبيّن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة، ومما يقوي قولنا: أنه لا يجوز تحريم المحاجة، قوله: {وجادلهم بالتي هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ} [النحل: 125] وقوله: {ولا تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وقوله: {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83].
ثم قال تعالى: {والذين يُحَاجُّونَ فِي الله} أي يخاصمون في دينه {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد ليست متفقاً عليها، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى، وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فبيّن تعالى أن هذه الحجة داحضة، أي باطلة فاسدة، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وفق قوله، وهاهنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق، فهاهنا يجب الإعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته.
وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً، ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة، فقال: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك، وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية: فمتى تقوم القيامة، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} والمعنى ظهر، وإنما يشفقون ويخافون لعلمهم أن عندها تمتنع التوبة، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة لَفِي ضلال بَعِيدٍ} والممارة الملاجة، قال الزجاج: الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة، فيمارون فيها ويجحدون {لَفِي ضلال بَعِيدٍ} لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل، فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
ثم قال: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي كثير الإحسان بهم، وإنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله بعباده، وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم، لا جرم حسن ذكره هاهنا، ثم قال: {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم، وإعطاء ما لابد منه من الرزق، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة.
ثم قال: {وهو القوي} أي القادر على كل ما يشاء {العزيز} الذي لا يغالب ولا يدافع.

1 | 2 | 3